تقديم رواية ماجدولين لمصطفى لطفي المنفلوطي
تقديم
للرّواية
"و من الحبّ ما قتل"
لطالما سمعنا عن قصص الخيانة التي
يروح ضحيّتها أصحاب القلوب الطّاهرة الصادقة التي لا يعرف الغدر إليها سبيلًا. و
كم من مرةٍ يصلنا خبر فتًى طاله عارضٌ من عوارض الجنون و الاختبال، لأنّ حبيبته
التي أهرق في سبيلها دم عروقه، و نثَر أمام رجليها دقائق قلبه، طوعًا و خضوعًا،
قد زُفّت إلى رجلٍ غيره لتقاسمه مُرّ الحياة و
حُلوها بمحض إرادتها، فلا تذرُ لذلك الفتى المسكين سوى الآلام و الغصّات و الحسرات
تنهش قلبه، و تقضُّ مضجعه.
و كم من مرةٍ قرأنا في القصص و
الرّوايات، عن شاب ائتمن صديقه على أسراره و حبّه، و أحلامه و أمانيه، ظنًّا منه
أنّ ظهره يحميه أعزّ الأعزّاء، و شرفَه يصونه أقربُ الأقربين، و أنَّ نفس هذا
الصّديق أسمى و أرفع من أن تُزاحمه في مُرادِه الذي ابتغاه، و جاهد الأيام و
اللّيالي ليبلغه بأي ثمن. فإن هو غاب عنه بُرهة من الزّمن ثمّ عاد إليه، وجده قد
باع عهد الودّ و الصّداقة بأبخس ثمن، ليقتل في قلب رفيقه حلمًا كان لا ينبض قلبه
إلا من أجل أن يراه واقعًا في مآتي الأيام.
لقد صوّر لنا المنفلوطي في روايته
(ماجدولين) أبشع ألوان الخيانة التي يمكن للنّفس البشرية أن تقع ضحيّةً لها. و كيف
باستطاعة المال و الجاه أن يبدّل القلوب
غير القلوب، و يَبتاع الذّمم و النّفوس كما تُبتاع السّلع الرّخيصة من السّوق. كما
صوّر لنا في الجانب الآخر، تلك النّفس الكبيرة، و الهمّة العاليّة لبطل الرّواية،
الذي أبى الإباء كلّه، أن يرى النّاس الذين آذوه بلا رحمة ولا هوادة، أذلاء صاغرين
أمامه، بل عوض ذلك، أسدى لهم ممّا أنعم الله عليه من نعم، و ظلًّ حريصًا على
سعادتهم و هنائهم، أكثر ممّا حرصوا على بؤسه و شقاءه.
التّأليف و
التّرجمة
ظهرت رواية تحت ظلال الزّيزفون
(بالفرنسية Sous les tilleuls) أول مرة سنة 1832 لكاتبها الفرنسي
(ألفونس كار)، أي قبل 45 سنة من مولد المنفلوطي. و هي رواية تراجيدية من الأدب
الرومانسي. عرّبها المنفلوطي سنة 1912، و لا زالت تكتسب شهرة واسعة إلى يومنا هذا،
و يرى الكثيرون رواية (ماجدولين) أعظم
أعمال الأديب الرّاحل على الاطلاق.
شخصيات الرّواية
ستيفن: بطل
الرّواية، شاب في مقتبل العمر، مولع بالفنّ و الموسيقى، يلتقي بـماجدولين بعد أن
يستأجّر غرفة من أبيها (مولر). مع مرور الأيام يُغرَم كل منهما بالآخر، لكن سرعان
ما يكتشف (مولر) علاقة ابنته بالشّاب الغريب، فيطرده. غير أنَّ (ستيفن) يقطع عهدًا
على حبيبته بالعودة طالبًا يدها من أبيها، و تعاهده هي الأخرى بصيانة حبّها لها
إلى أن يعود إليها.
ماجدولين: فتاة ميولة
للطبيعة و الجمال. ابنة الشّيخ (مولر) الذي لا يبتغي مُرادًا في الحياة غير أن يرى
وحيدته مغتبطة هانئة في حياتها. تجدها حزينة مستغرقة في التّدبير و التّفكير دون
أن تعرف لسببها علّة و لا سببًا، ممّا جعلها تكتب لإحدى صديقاتها بعض الرّسائل بين
الحين و الآخر، لتُخطرها بسرائر قلبها، و تبثّها لواعج نفسها.
ادوارد: أعز أصدقاء
(ستيفن) إلى قلبه، و مستودع أسراره الأمين. نشأ الاثنان مع بعض، و عانيا الأمرّين
في صغرهما مع (يوجين) شقيق (ستيفن). تقاسما المسكن بعد أن طُرِد (ستيفن) من بيت
(مولر)، و عاشا الحياة تلك بحلوها و مرّها قبل أن تفرّقهما الأيام.
سوزان: صديقة
(ماجدولين)، تميل إلى حب الحياة الفارهة و تغليب المال على العاطفة، و تضغط على (ماجدولين) لتفارق (ستيفن) الفقير،
و تتزوّج برجل ثريّ يضمن لها عيشة كريمة في قصر كريم.
مولر: والد
(ماجدولين)، شيخ عجوز مُلمٌ بأمور النباتات و الأغراس، يسعى جاهدًا لضمان مستقبل
لوحيدته قبل وفاته، بأن يزوّجها برجلٍ ذو مال و جاه، لا يخاف عليها من جوعٍ أو برد
و هي في ذمّته.
الحبكة
تدور أحداث الرّواية في ألمانيا، و
تحديدًا في قريتيّ (ولفاخ) و (كوبلانس) و بلدة (جوتنج) .
(ستيفن) شاب يافع مهذّب يطرده والده من البيت العائلي في
(كوبلانس)، و يحرمه من حقّه في الميراث لأنّه أبى الزواج بالفتاة التي اختاروها له
دون أن يأخذوا برأيه في الأمر. يحدثُ هذا بعد أن طرده العجوز (مولر) هو الآخر من
غرفته التي استأجرها له ساعة علم بأمر علاقة الحبّ التي تربطه بابنته الوحيدة
(ماجدولين). يفترق الحبيبان و في قلب كلّ منهما حرقة لا تنطفئ إلا بلقاء
جديد لا فراق بعده.
يهيم (ستيفن) على وجهه في أنحاء
البلاد طالبًا الرّزق، حتى إذا طلب يد حبيبته من والدها لم ير بدًّا من تزويجها
إياه. و كان لا يكفّ عن مراسلتها، و الاطمئنان على حبّه في قلبها، طيلة المدة التي
افترقا فيها. فينزل في بلدة (جوتنج) ضيفًا عند معلمه القديم الذي يُكنُّ
له في قلبه كلّ الاحترام و التّقدير. فلا يلبثَ المعلّم أن يُلمّ بشأن (ستيفن) من
عوز و فقر، فيساعده في الحصول على وظيفة
في التّدريس، فيتمكّن بفضل راتبها من كراء غرفةٍ صغيرة و تدبير شؤون نفسه.
و بقي (ستيفن) على هذه الحال حتى
التحق به (ادوارد) هربًا من عمّه الذي صدّه عن التّلاعب بالأموال التي ترك هل له
أبوه المتوَفَى، على أن يعود لاستلامها عندما يُكملُ سن البلوغ بعد أشهر معدودة.
فأحسن (ستيفن) ضيافة صديقه، و احتمل منه طيشه و تبذيره لماله القليل دون تذمّر أو
شكوى، بل إنّه كاد أن يموت في سبيله في إحدى المرات لولا أنّ يد القدر كانت رحيمة
به. ولا زالا على حالتهما تلك حتى أتمّ (إدوارد) سن البلوغ و افترق الصّديقان
بالدموع.
استقبلت (سوزان) صديقتها (ماجدولين)
في قصرها الفاره بـ (كوبلانس)، و أطلعتها على الهدايا الثّمينة التي ابتاعها لها
خطيبها (فريديريك) من جواهر نفيسة، و دمالج ثمينة، و أقمشة فاحشة، و حاولت أن
تَلِجَ إلى نفس صديقتها فتقنعها ألا حبّ إلا الحبّ الذي يُسنده المال و النّشب،
فلم تنل مرادها. و لازالت تُلحُّ عليها أن تصل حياتها برجل غنيٍّ يُكرمها و ينزل
عند كل مطالبها الماديّة حتى تمكّنت منها، و ما هي إلا أيام قلائل حتى تمّت خطبة
(ماجدولين) لـ(ادوارد) الذي ورث الأموال و القصور من أبيه، و تلى الخطبة حفل الزّفاف.
سقط (ستيفن) طريح المرض لهولِ
الصّدمة التي تلقّاها، كيف لا وقد خدعته حبيبته التي شقي الشّقاء كلّه من أجلها، و
غدر به رفيق دربه الذي كاد أن يموت في سبيل الذّود عنه. لكن سرعان ما نفض (ستيفن)
من يديه تلك الحياة البائسة القائمة على بكاء فتاة خائنة باعته بأبخس الأثمان. و
وجد في الموسيقى ملاذًا من آلامه و جروحه، فبرع فيها، و صار من نوابغ العزف و
الإيقاع، و أصبح ذلك الفتى الشّريد المطرود بالأمس، رجلًا عظيمًا من علية قومه اليوم.
تبرّم (ادوارد) من زوجته (ماجدولين)
فصار لا يدخل البيت إلا قليلًا، و انشغل بالقمار فخسر ماله إلا بعضه، فمدّ يده إلى
أثاث البيت و حليّ زوجته ليدفع للدائنين، و ما هي إلا أشهر قليلة حتى فرّ هاربًا
إلى أمريكا تاركا (ماجدولين) مع طفلة تتخبّط في أحشاءها، و لا زالت تعاني الأمرّين
في غيابه حتى وصلها خبر انتحاره بعد أن خسر ماله كلّه في القمار في ليلة واحدة،
فأظلمت الحياة بين عينيها و لم تجد غير (ستيفن) بعد وفاة والدها، لتلجئ إليه و
تستغفره ذنبها الذي أذنبت في حقه.
رأت (ماجدولين) الرأي أن تقصد
(ستيفن) و تستجديه أن يصل حياته بحياتها من جديد، و أن يغفر لها زلّاتها الماضية،
فرفض قطعًا ما جاءت به رغم حبّه الذي كان لا يزال في قلبه لها. انقطعت كل السّبل
بماجدولين فانتحرت بعد أن تركت رسالة لستيفن توصيه فيها خيرًا بابنتها، و ما هي
إلا شهور معدودة حتى لحق بها (ستيفن) بعد أن قتله الهم و الحزن.
تعليقات
إرسال تعليق