يسكن بغرفة مجاورة لمنزل الكاتب فتى يقضي معظم وقته منكبًا على طاولة
دراسته لا يزيح عينيه عن إحدى صفحات الكتاب الذي بين يديه دون أن يقلبها أو يمرر
نظره إلى شيء دونها، أو يقضي ساعات منقبضًا في
أحد أركان الغرفة و عيناه مغرورقتان بالدموع، أو مستلقيًا في فراشه يحدق في سقف
غرفته لوقت طويل.
ينتاب الكاتب بعض الشّك، و
يرتاب لأمر هذا الشاب المسكين الذي لا يقعد و لا يقوم إلا باكيًا منتحبًا، و يدرك
أنّه يعاني في نفسه بعض الآلام الخفية التي أعيته و نالت منه منالها، فانتقلت من
نفسه إلى جسده لتضمره و تضعفه. فيعزم على زيارته و سؤاله عن حاله، فيمنعه من ذلك
أنّه لا يحب أن يُداخل النّاس في أمورهم الشّخصية التي يحجبونها عن غيرهم.
و في أحد الليالي يسمع الكاتب صوت أنّة عميقة قادمة من غرفة الفتى، فينزعج لذلك انزعاجًا شديدًا، و يُملي عليه واجب الجوار أن يعود جاره ليقف عند حاجته، خصوصًا و أنّه وحيد لا معين له و لا سند. يذهب الكاتب إلى بيت الفتى ليجده مريضاً طريح الفراش، يلتهب من الحمى، و يتأوّه من الألم، و يعالج جسمه الهزيل آلامًا شبيهة بآلام النّزع الأخير. فيشير إلى خادمه أن يسرع في إحضار الدواء، فيستفيق الفتى، و يعود له بعض الرّمق بعد تجرّع بعض قطرات منه. ثم يُؤتى إليه بالطبيب فما إن يتفحصه و يجس نبضه، حتى يخبر من حوله أنّ مريضهم مقبل على حتفه لا محاله، و أن ساعاته في هذه الدّار أصبحت معدودات.
أمضى الكاتب الليل كله واقف عند رأس مريضه يبكيه و يدعو الله له
الشّفاء و الإبلال، و ما إن انبلج نورالفجر حتى استيقظ الفتى،و أنشئ يشكر جاره
الذي لولاه لكان قد لاقى ما هو أدهى مما لاقى و أمّر. و هنا يسأل الكاتب الشّابَّ
عن أصله، و موطنه، و طبيعة مرضه، و سبب انزواءه عن العالم في هذه الغرفة الضّيقة
دون أن يزوره زائر، أو يعوده عائد. فلا يرى الفتى حرجًا أن يقص عليه جملة حاله على
أن يقطع عهدًا بينه و بينه أنّ يبقى سره هذا دفين صدره ما مدّ الله في عمره،
فيعاهده على حفظ سرّه، ثم ينشئ الشّاب يروي قصّته على مسمع الكاتب كما يلي:
كنت طفلًا في السّادسة من العمر عندما تركني أبي و رحل عن هذه الدنيا
دونما رجعا، فكفلني عمي بعد وفاته، فكان أحسن الأعمام، و خير الكافلين. أنزلني
منزلة الابن عند الأب، و كانت له بنت في مثل سنّي لا أخ لها و لا أخت، فأغبطه أن
أؤنس وحشتها، و أملئ عليها حياتها. فكنت لها صاحبًا مخلصًا، و أخًا محبًّا، و
رفيقًا صادقًا، لا أفارقها إلا ساعة ذهابي إلى فراشي لأضطجع.
و لا زال هذا حالنا نتقاسم حلو الحياة و مرّها، و نتشارك آمال الدنيا و آلامها، حتى نزل بعمي مرض عضال مازال به حتى فتك به فتكة أودت بحياته، و كان آخر عهده في هذه الدار الدنيا أن استوصى أهله خيرًا بي بعد موته.
و ما هي إلا أيام قلائل بعد وفاته حتى تغيّرت صور أهل ذلك البيت إلى
صور لم أعهدها من قبل، حتى أحسست بنفسي غريبًا لأول مرّة بين أهل ذلك البيت الذي
لطالما اعتبرته بيتي، و دخيلًا بين أولئك النّاس الذين اتّخذتهم أهلا لي. و إنّي
لقاعد في ذات يوم في غرفتي حتى دخلت عليّ خادمة القصر تحمل لي كتابًا من زوج عمي
تطلب منّي فيه أن أبتعد عن ابنتها جهد استطاعتي، لأنّها صارت شابة يافعة لا يجمل
بك ملازملتها طيلة الوقت، و أنّ خطيبها يرى الرأي كلّه أن تبتعد عنها، و تلتهي بشأن
غير شأنها، و أنّها تقترح عليك الساعة أن ترى لنفسك في أقرب وقت، مسكنًا غير هذا
القصر تأوي إليه.
نزل عليّ هذا الكتاب كالصّاعقة على رأسي، و عزّ عليّ أن أفارق في تلك
الساعات الصعاب أحب مخلوق في نفسي، و أعز روح على قلبي. فما كان منّي إلا أن جمعت
أغراضي و نزلت في هذه الغرفة المظلمة، أشكو الآلام العظيمة التي لا قبل لمخلوق على
احتمالها.
و لا زلت على تلك الحال حتى زارتني خادمة القصر في غرفتي هذه، و حملت
إليّ كتابصا من ابنة عمي تخبرني فيها أنّها مقبلة على الموت لمرض فتّاكٍ أصابها، و
ذوى زهرة شبابها، و تطلب منّي و هي في ساعاتها الأخيرة أن أعودها و ألقاها اللقاء
الأخير، و تستحلفني ألا أحرمها من مرادها هذا، فتذهب إلى تلك الدّار دون وداع
لائق.
فما إن انتهيت حتى اندفعت متوجهًا نحو القصر لألبيّ نداء ابنة عمي
الأخير، فاستوقفتني الخادمة و أخبرتني أن الأوان قد فات، و أنّ ابنة عمي قد فارقت
الحياة منذ زمن، دون أن تتحقق أمنيتها في أن تلتقيك. فذُعِرتُ ذعرًا شديدًا، و
خُيِّل إليّ أنّني ميت وسط الأحياء. و منذ ذلك الحين و أنا في هذه الحالة اليائسة
بين الحياة و الموت، حتى أسقطني الهم ليلة أمس طريح الفراش، و جرى ما جرى بعد ذلك.
لم يلبث افتى بعد أن قص قصّته كثيرًا حتى فاضت روحه إلى خالقه، و تمّ
له ما أراد في آخر ساعات حياته أن يُدفن بجوار ابنة عمّه. فأبت الأقدار إلا أن تفرّقهما
في دار الدّنيا على سعتها و اتّساعها، و ان تجمعهما في قبر مظلم على ضيقه و انحصاره.
تعليقات
إرسال تعليق