لمحة مختصرة عن
كتاب النّظرات لمصطفى لطفى المنفلوطى
هو عبارة عن
مجموعة مقالات و قصص قصيرة جُمِعَت في كتاب بثلاثة أجزاء. و قد ظهرت هذه المقالات
لأول مرّة في جريدة "المؤيّد" التي كان المنفلوطي ينشر فيها كتاباته منذ
عام 1907. قبل أن يجمعها
في مجلد واحد ضمّ حوالي 120 موضوعًا بين مقالات أدبيّة، قصص موضوعة و قصص مترجمة
عن الأدب الفرنسي.
في هذا الموضوع
نستعرض لكم أفضل 10 مقالات (حسب رأينا المتواضع) قرأناها للمنفلوطي في مجموعة
النّظرات، و تركت فينا الأثر البالغ:
10.حوانيت الأعراض
لا يرى المنفلوطي فرقًا بين رجل يمدّ يده إلى مال غيره فيسلبه إياه
عنوةً، و بين امرئ يطال بحرفه أو بلسانه أعراض الآخرين و حرماتهم فيسيء إلى
سمعتهم، و يلوّث صورتهم أمام العامّ و الخاص. فالمال حسب رأي الأديب ما هو إلا
حجابٌ يتخذه المرء بين شرفه و بين ألسنة الطّاعنين فيه، و حاجزً يمنع المتطفلين و
الخائضين في كل خوض من الدّنو منه، و الحاق الضّرر به. و هنا يتضّح جليًا أنّ
المال أداة من أدوات حفظ الشّرف وصيانته ليس إلا، فإذا خُدَع المرء في شرفه، لم
يعد المال عنده إلا وسيلة من وسائل إقامة شؤون حياته من مطعم و مشرب و ملبس لا
يزيد عن ذلك شيئًا. و كثيرًا ما سمعنا عن قومٍ يبرعون في شتم نبلاء الأمّة و عظماء
الوطن، فيشكّكون في نزاهتهم و طهارتهم باسم النّصح و الوعظ، ويقذفونهم في شرفهم و
كرامتهم منتحلين ثوب الحقيقة و الصّراحة، ولو أنّه كُشِفَ للنّاس نواياهم الخفية،
و هدفهم من وراء التّشهير و القذف بالآخرين، لعلموا أنّهم ما فعلوا ذلك إلا لصغرٍ
في عقولهم، و ضعةٍ في نفوسهم. لأنّهم لا يكتبون لإصلاح ما هو فاسد، بل لإفساد ما
هو صالح. لم ينتخب هؤلاء القوم أحدٌ حتى يكونوا حكّاما بين النّاس يفصلون في
أمورهم، و يبثّون في قضاياهم، و يفاضلون بين صالحهم و طالحهم، و إنّما أعلنوا
أنفسهم بأنفسهم ترجمانًا لصوت الحق، ينزّهون من شاؤوا، و يسفّهون من أرادوا، و لو
جُمِعت شرور كلّ الآثام و الخطايا و قوبِلَت بشرورهم و آثامهم و مفاسدهم على كفتيّ
الميزان، لثقلت كفة الطّاعنين في أعراض النّاس.
.9السّريرة
في مقالته هذه، يخوض المنفلوطي في الحديث عن سريرة الإنسان، و ما يمكن
أن تخفيهاة من حقائق و أسرار، عكس ما يبديه صاحبها في قيامه و قعوده، و حديثه و
تصرفاته. فقد يضمر
الرّجل في قلبه من الأحزان و الهموم ما لا يعلم به إلا الله، ثمّ يخرج للنّاس باسمًا
ضاحكًا، كأنّه لا يعالج في نفسه آلامًا خفيّة تنغًص عيشه، و تكدّر عليه صفو سماءه.وقد
يصطنع الرّجل المحبّة إزاء صاحب من أصحابه، فيبسم في وجهه، و ينزل عند رغباته، و
يؤيده في أفكاره و تصوّراته، و يُثني عليه في قيامه و قعوده، و ينشد رضاه و يتّقي
غضبه، لكنّه لو كشف له عمّا في دخيلة نفسه، لعرف أنّه ألد عدوّ قد تنكّر بصفة أعزّ
صديق. و لو علم
النّاس أنّ رجال الدّين ما أخذوا منهم أموالهم، و لا انتزعّوا منهم قوتهم، إلا
ليبتاعوا بذلك عقولهم، و يزرعوا في نفوسهم المخاوف و الهواجس، ألّا أمن لهم و لا
سكينة، إلا إذا بذلوا النّفيس من ذهبهم و مالهم، في سبيل الشيوخ و الرّهبان، و
إلّا فلا حظ لهم في هذه الحياة. و لو علم الجند أنّهم لا يستبسلون في
ساحات الوغى، و يدفعون بحياتهم إلى الخطر بملء مشيئتهم و إرادتهم في سبيل أوطانهم،
إلا ليرصّعوا تاج ملوكهم بالماس و الذهب، و يزيّنوا صدور قوّادهم بالأوسمة و
الشارات، لما رفع أحدهم سلاحه في وجه الآخر. و لو علم الولد أنّ والده لا يكدّ في إنشاءه و
تربيته، إلا لينتفع به عند هرمه، أو يفخر به في المجالس إذا حسن تدبيره، لوهنت تلك
الوشائج التي تربط الابن بأبيه، و المولود بوالده.
.8البعوض و
الإنسان
يرفع الكاتب قلمه ليلًا ليكتب في أحد الموضوعات كعادته، فإذا به
يتفاجئ بضيف ثقيل، يحول بينه و بين الخوض في شأنه. مجرد بعوضة تزعجه بطنينها عند
أذنه، و تقلقه بلسعها لأجزاء متفرّقة من جسده، ممّا يجبره على وضع قلمه من بين
أصابعه، و تدبير خطّة للقضاء عليها. يطاردها بالمذبّة فتفرّ منه إلى أماكن لا
يستطيع الوصول إليها، ثمّ يفتح النّافذة لتخرج، فيدخل غيرها ممن كان بالخارج. ثم
ينوي قتلها عندما تتجمّع في مكان واحد، فتتشتت و تهرب إلى أماكن متفرقة، فيعجب لها
من أمّة تضعف و هي متّحدة، و تقوى و هي متفرقة.
يقارن الكاتب في مقالته "البعوض و الإنسان" بين البعوض و
الإنسان. حيث أوجد بعض أوجه الشبه بين هذين المخلوقين. فالبعوض شره طمّاع، يمتص من
دم الإنسان ما يكثر عن حاجته، حتى إذا ثقلت بطنه بذلك السّائل الأحمر، هلك و فنى.
و هو الحال ذاته عند الإنسان الذي يسعى في كنز المال جهد استطاعته، حتى يموت قبل
أن يعيش حياته. و البعوض يشبه
الإنسان في طنينه و ضوضاءه، فهو يخبر ضحيّته بخطّته من حيث لا يعلم، بأنّه قادم
إليه لشرب دمّه، فيعدّ له العدّة ليقضي عليه و يحبط مسعاه. و كذلك هو الحال عند
الإنسان الذي لا يقضي حاجته قبل أن يطلع عليها النّاس جميعًا، فيسبقه غيره إليها،
و يخيب مسعاه.
.7الشّيخوخة المتمرّدة
يجسّد لنا المنفلوطي في مقالته (الشّيخوخة المتمرّدة) مثالين حيّين عن
رجل و امرأة، أحدهما طمع فيم ليس له فيه حق، فنال عقابًا قاسيًا، و آخر ضحّى
بسعادته في سبيل إسعاد غيره، فكان حظّه في السّعادة كحظّ من ضحى من أجله.
القصّة الأولى لشيخٍ سبعيني أراد أن يخطب لولده الفتاة التي أحبّها، و
اختارها زوجةً له. فلما وقع نظر الأب عليها استحسنها، و تمنّاها لنفسه، و سرعان ما
خطبها من أبيها لا ليفرح ابنه، بل ليرى نفسه عريسًا من جديد، فماكان من أهل الفتاة
إلى أن زوّجوها للأب بدل الإبن، لأنه ذو ثروة و حظوة. فما إن وصل خبر زواج حبيبته
بوالده، هجر الفتى هجرًا لم يعد من بعده. و ما إن انقطعت أخبار ولده عنه، حتى ندم
ذلك الشيّخ ندمًا شديدًا، و علم أنّ عهد الودّ و القرابة بينه و بين فلذة كبده قد
ولّى دونما رجعة. ثمّ ما لبثت الفتاة أن عادت إلى بيت أهلها، ليجد ذلك الشّيخ نفسه
وحيدًا على كبره و عجزه. فكان في ذلك أقسى عقوبة له، لأنّه مدّ يده إلى ما ليس له،
فلاقى مقابل ذلك ما يستحقّه.
أما القصّة الثانيّة، فهي لامرأة فقدت زوجها في حادث و هي لا تزال
شابة صغيرة لم تتجاوز الخامس و الثلاثين من عمرها. فلم تجد طريقًا لنسيان آلام
وحشتها و ترمّلها في مقتبل عمرها، غير أن ترتاد بعض الأنديّة و الملاعب، علّها
تخفّف عنها مصابها. و هنالك تعرّفت على شاب يصغرها بخمس عشرة سنة، فتقرّبت منه و
تقرّب منها، و لازالا على حالتهما تلك حتى نزل في قلبها منزلة لا ينزلها إلّا
الحبيب من قلب محبّه. فدعته إلى زيارتها في منزلها حتى إذا فعل التقى بابنتها
فأُعجبَ كلّ منهما بالآخر. و لازالا على حالتهما تلك، كلّ منهما يُكبِر الآخر في
عينه و قلبه، حتى وقع كلّ منهما في غرام الآخر قبل أن تكتشف الأم ذلك، فتنصدم و لا
تدري ماذا تصنع! أتُضحّي بسّعادتها في سبيل إسعاد ابنتها؟ أم تؤثر نفسها عليها؟ و
لا زالت تتصارع بين تلك الأفكار حتى ثاب إليها رشدها، و رأت الرأي كلّه أن تجمع
بين ابنتها، و بين الرّجل الذي أحبتاه اثنتيهما، فكان لها ما أرادت، و ما هي إلى
بضعة شهور، حتى تزوجا و رُزِقا بطفلة كالبدر في جمالها وًحلاوتها.
.6الحب و الزواج
جاءت هذه المقالة ردًا على قصة جبران خليل جبران، التي تحمل
عنوان(وردة الهاني)، و التي ضمّنها الأديب اللبناني في مجموعته القصصيّة
الشهيرة"الأرواح المتمردّة". و خلاصة القصّة أنّ كاتبها تغرّب عن مدينته
ردحًا الزّمن، و لما عاد إليها قام بزيارة أحد أصدقائه، فوجده حزينًا مهمومًا،
لأنّ زوجته التي أحبّها حبًّا جمًّا، تركته لتعيش مع غيره.
ما أثار المنفلوطي في هذه القصّة هو أنَّ كاتبها دافع عن الفتاة، و
استصوب رأيها في تركها زوجها الذي لا تكنّ له الحبّ، و نزولها في بيت عشيقها الذي
لا ترى الحياة حياةً إلا و هي بين يديه.
يرى المنفلوطي أنّ نفس الإنسان متقلبة متلوّنة، ميّالة بطبعها إلى
التجديد و التّحديث، و أنّ الله تعالى ما سنّ قاعدة الزّواج، إلا ليقطع العلاقات
المصطربة التي تجمع بين الرّجل و المرأة خارج الإطار السّرعي.
كل زوجٍ من الأزواج يمنّي نفسه بشريك أصغر سنًا، و أبهى طلعةً، من
شريكه الذي يقاسمه اللقمة الواحدة، و الفراش الواحد. فلولا ذلك الرّباط الشّرعي
الذي يسمونه "الزّواج"، لهام كل الرّجال و النّساء على وجوههم، يفتّشون
في بقاع الأرض عمّن هو أجمل من شريكهم، و أنضر منه.
يرى المنفلوطي، أنّ جبران دعا لانحراف المرأة و خروجها عن حكم زوجها و طاعته، مابدا لها سوء منه، أو حدّثتها نفسها بايجاد من هو خير منه. فالزّواج ليس كبقية شؤون الحياة التي تقبل التّغيير و التّبديل كلّما ضجر منها المرء و اسثقلها، كأكل و شرب و لباس و مسكن، و إنّما هو رباط مقدّس، لا يشكّك بقدسيته، إلا من أراد خرابًا بالأسرة و المجتمع الانساني.
.5الكوخ و القصر
يتطرّق المنفلوطي في مقالته هذه إلى موضوع الغنى و الفقر، و إذا ماكان
باستطاعة المال أن يبتاع السّعادة لصاحبه، و يدفع عنه الشّقاء و الحزن.
يرى الكاتب أن الأغنياء هم أشقى أهل الأرض جميعًا، و أنّ أغلب النّاس
يخطئون في ظنّهم بأنّ أرباب المال هم نفسهم أرباب السّعادة، يشترونها كلّما ضاقت
بهم صدورهم، أو نزل بهم الهم و الغم.
فالغنيّ هو أولى النّاس بالشّفقة و الرّحمة، لأنّه لا يعلم ألنفسه
يلتف حوله النّاس من أصدقاء و أقرباء، أم لماله و دراهمه. و أخوف ما يخاف منه أن
تنزل به نازلةٌ تأتي على جميع ما تشتمل عليه يديه من ذهب و نشب، فلا يجد دمعةً
رقراقة تسيل من أجله، أو قلب صادقًا يألم لحاله. و فلا سبيل لسعادة الغنيّ إلا أن
يبذل من ماله في سبيل تفريج كرب الفقراء، و تسرية هموم البؤساء.
أما الفقير فإنّه إمّا خادعٌ لنفسه أو مخدوعٌ من غيره، إذا رأى في
فقره عيبًا، أو في قلّة رزقه منقصةً. فقد يجد في كوخه الحقير من السّعادة و
الهناء، ما يعجز عن إيجاده أغنى النّاس في قصره و بين خدمه، إذا قنع بقسمة الله
له، و لم يمدّ عينه أو يده إلى مالا يعود له.
.4الضّمير
يرى الأديب أنّ الخلق لا يكتمل عند المرء إلا إذا كان صاحب ضمير حيّ،
تقوده نفسه الفاضلة نحو الخير لأنّه الصّواب، و تنازعه إذا ما استلذّ صنع الشرّ
لأنّه شرّ و كفى. فكثيرًا ممّن نحسبهم
متخلّقين إنّما يصطنعون الخلق أمام النّاس لقضاء مصلحة، أو دفع مضرّة، لا يزيد عن
هذا أوذاك شيئًا. فالحاكم يبسم في وجه رعيته و هو يرهق كاهلهم بظلمه و تجبّره، و
الدّيان يتظاهر بالورع و التّقوى و ما إن يختلي بنفسه حتى يفتح أمامها أبواب
الشّهوات و المعاصي، و الغنيّ يصطنع العطف على الفقير دون أن يمدّ يد المعونة
إليه، و إن حدث و فعل كان ذلك لدفع الإحراج عن نفسه، أو الظّهور بمظهر الكريم أمام
غيره، لا ليسدّ خلّة ذلك المسكين و يفرّج كربته. و السّياسيّ يوزّع الآمال الكاذبة
بكل صدقٍ على النّاس ليحظى بأصواتهم، و يحفظ منصبه من طريقهم.
هؤلاء متخلّقون لكنّهم لايحتكمون إلى ضمائرهم، و لا تحاسبهم أنفسهم.
أما ذو الخلق الذي يحتكم لضميره قبل كل شيء، فيصنع المعروف لا لينال أجرًا
بالمقابل، و يتّقي الشّرور و الآثام لا خوفًا من العقاب و الحساب، فهو شخص نادر،
قلّ ما نجده بين النّاس. فالخلق هو دمعةٌ صادقة تحرق خدّ العاجز عن معونة عاجز، أو
قلب واجف يتقطّع لمصاب ألمّ بمكروب، أو رعشة تسري في جسد امرئ يذود عن غريب مظلوم
لا يعرفه ولا يعرفه، أو التباس في قول رجل صادق حاول أن يكذب لدفع الضّرر عن نفسه
فخانه ضميره، و أبى أن يسقطه في هوّة الكذب.
.3الدّفين الصّغير
يصف المنفلوطي في مقالته هذه حالته النّفسيّة التي مرّ بها بُعيد دفن
ابنه، و ثلاثة من إخوته قبله. حيث يصوّر
بطريقة بارعة و فذّة، شعوره بالوحدة و الغربة عن العالم، بعد أن وارى ابنه الثّرى،
و رجع مكسور القلب، مرضوض النّفس إلى بيته، و هو لا يعلم ماذا يصنع بعد أن ألمّت
به هذه الفاجعة الأليمة. بل لا يرى طعمًا لحياته و لا معنى لها، بعد أن سلبه القدر
فلذات كبده، واحدًا واحدًا.
و الظّاهر أن المنفلوطي لم يبرع في صياغة ألفاظ المقالة و صقل معانيها بأسلوب منفردٍ مميّز
فحسب، بل أفاض فيها من صدق مشاعره، و نُبل مقاصده، ماهو كفيل بترك انطباع من الحزن
و الأسى، على ما حلّ بهذا الرّجل المسكين، الذي خطف الموت أولاده منه، قبل أن يسعد
برؤيتهم رجالًا. لكن رغم هذا كلّه، فإنّ المنفلوطي أبدى عن بعض من الرّاحة و
السّكينة التي تسودان نفسه، و تخفّفان عنه بعضاً من أحزانه و أشجانه، ذلك لاعتقاده
أنّ رحيل أولاده عن الحياة خيرٌ لهم من البقاء فيها، فهي أشرّ الدّيار حسب
اعتقاده، و أنّ الله تعالى أرحم بهم منه و هو والدهم، و هم أفلاذ كبده. و تمنى
الكاتب في آخر كلامه، أن يعجّل الله بانقضاء أيامه حتى يجتمع مع أولاده في تلك الدّار
الخالدة، فلم يعد راغبًا بالدّنيا و ما فيها، إذا كانت تخلو منهم.
.2أين الفضيلة؟
يستهل المنفلوطي مقالته بقصّة من نسج خياله، و هي أنّ شابًا رسم في
مخيلته صورةً لفتاة أحلامه، فظلّ يفتّش عن وجهها تفتيشًا بين الوجوه إلا أن تحقّق
له مراده أخيرًا و ظفر بها. هذا الشّاب هو الكاتب بعينه، لكنّ الفرق بينهما أنّ
الأول فتّش عن فتاته فعثر عليها، و الثّان بحث عن "الفضيلة" فظلّ طريقه
إليها، و أعجزه إيجادها.
فتّش عنها في حوانيت التّجار فوجد كلّهم إلا قليل منهم غشّاش يبيع
بدينارين ما ثمنه دينار، و يكذب النّاس في الميزان و الكيل، ليأخذ أكثر ممّا
يستحق، و يجنيّ أضعاف ما حصّل من عمل، و بذل من جهد.
فتّش عنها بين مجالس القضاة فوجدهم يدينون البريء، و يبرّؤون المذنب،
و يعتذرون لذنبهم هذا أنّهم يتّبعون القانون و النّاموس لا يزيدون عنهما شيئًا، و
كأنّ القانون الوضعي الذي سنّه عقلٌ أبرع من عقلهم، أو خطّته يد اللّه فلا يجوز له
تبديلًا و لا تحويلًا.
فتّش عنها في منازل الأغنياء، فوجدهم إمّا مترفين يسرفون في تبذير
المال هباءًا، أو بخلاء مقترين قد يموت لهم جارٌ من الجوع و السّغب، و هم يسمعون
أنّاته و آهاته، دون أن يتكرّموا عليه برغيف خبز يسدّ به جوعه، و يقِ نفسه شر
ميتة.
فتّش عنها في مجالس السّياسة فوجد معظم رجالها كاذبين منافقين، لا
يهمّهم من أمر رعيّتهم إلا أن يتّخذوا من عظامهم و أجسادهم سلماً يصعدون به إلى
سماء آمالهم و أحلامهم.
فتش عنها بين رجال الدّين فوجد معظمهم يتاجر بالدين لقضاء مآربه، و
يبيعهم الأوهام و الأكاذيب لضمان بقاءه سيّدًا على جهلة قومه.
و في الأخير يتمنّى الكاتب أن يرزقه الله بصديق صادق، يحبّه لنفسه لا
لمزيّة فيه، فيكون له كالنّجمة الضّياءة في وسط اللّيلة المدلهمة.
.1الشّعرة البيضاء
يمرّ بجانب المرآة فيلمح في رأسه شعرةً بيضاء، تتوسّط ذلك السّواد
القاتم الذي يتربّع كالتّاج فوق رأسه. فيضيق صدره، و ترتاع نفسه، ويُخيّل إليه أنّ
تلك الشّعرة ما هي إلا طالع شؤم، قدِم من عالم الغيب، لينذره بدنوّ أجله، و يخبره
أنّ أيامه في هذه الدّار قد أصبحت معدودات، فيمتلئ قلبه رعبًا و فزعًا و هو القلب
الذي لا تهزّه خطوب الدّهر، و لا تريعه نوائب الزّمان. فيزداد ضيقه و تبرّمه من
هذه الشّعرة التي طغت على السّواد المحيط بها بالرّغم أنّها وحيدة، و ما يزيد قلقه
أنّه لا يستطيع تلوينها و إحالة سوادها إلى بياض، فهو يكره الكذب و التّصنع، و لا
يقدر أن يزيلها من مكانها إزالة لا قبل لها بالرّجوع إلى مكانها من بعدها، لأنّه
إن فعل و نتفها، نبتت في مكانها شعرة أخرى، بل ربّما مزرعة من الشّعر الأبيض.
يأخذ المنفلوطي نفسه على هجاء هذه الشّعرة، و إلحاق اللّوم عليها،
لأنّها اختارت رأسه من بين جميع الرّؤوس، لتتّخذه سكنًا لها و مستقرًا. بل يسألها
عن سبب القدوم إليه بدون زيارة، و الظّهور بين خصلات شعره دون استئذان!
ولا يزال على حاله تلك، يصفها بأبشع الصّفات، و ينعتها بأحطّ النّعوت،
حتى تثوب إليه نفسه، و يعود إلى رشده، فيستغفرها ذنبه، و يستحلفها أن تعفو عن كل
ما بدر منه، و يخبرها أنّه سينزلها أكرم منزلة في قلبه، لأنّها لا تستحق إلا
الإجلال و التّكريم. فهي رسول الموت، و ماهو إلا إنسانٌ بائسٌ شقيٌّ، لا أحب إلى
قلبه من أن يتخطّفه الموت فيريحه من همومه و أحزانه. فما أحوج المحزونين أمثاله
إلى ذلك الطّائر الأبيض يرفرف في سماء هاماتهم السوداء، ليخبرهم أنّ ساعة راحتهم
من عناء الدّنيا و شقاءها قد باتت قريبة، فما أحوج البائسين في هذا العالم إلى
"الشّعرة البيضاء".
تعليقات
إرسال تعليق